وبدأت الرحلة
تنكرت طيبة بزي الرجال ووضعت على كتفها عصا.. تدلت من مؤخرتها صرة الطعام..واستعدت للرحيل ,كان الشيخ مسعوديقف مودعا.
تقدم منها واضعا يديه على كتفيها ليشد من أزرها :
- أدعو الله أن يوفقك في رحلتك الصعبة هذه يا ابنتي, لتقابلي حكيم وادي الأسرار.
ربتت بيدها على يده وهي تهز براسها ..
- سيتحقق ذلك ان شاء الله ..أوصيك بأبي خيراً يا عمي..
طمأنها الشيخ قائلا:
- سيكون في رعاية الله وحفظه. لا عليك .. رافقتك السلامة..
ابتعدت بضع خطوات ..ثم توقفت لتنظر من جديد إلى الشيخ مسعود ..لكنه أومأ لها برأسه أن ((لاتخشي على أبيك ..سأعتني به )) .
انطلقت طيبة.. مبتعدة عن بيتها..وظل مسعودواقفا على الباب يلوح لها. وابتدأت طيبة رحلتها، قاصدة وادي الأسرار لتقابل حكيمه.
من يراها كان لايشك أبدا في أنها فتاة وليست رجلا ..كانت تضع قبعة سوداء على رأسها ,وشاربا كث الشعر أسود ,ولحية على ذقنها,وترتدي بنطلونا فضفاضا ..وسترة عريضة, أخفت وراءها شكل جسمها الأنثوي ..وعلى كتفها عصا تدلت من مؤخرتها صرة, حملت بها طعاما لرحلة لاتدري كم ستطول ..وأين ستفضي بها ..لكن إيمانها بالله تعالى هو ماهون عليها رحلتها الشاقة هذه .
وبعد مسيرة يومين. استطاعت الفتاة الشجاعة (طيبة) أن تصل الى احدى القرى المأهولة.. ولكن..
هذه القرية يبست أشجارها.. ومات الزرع فيها..ليس هناك مايدل على وجود حياة في هذه الأرض المقفرة ..ترى لم هي حزينة هكذا؟؟ ..سألت طيبة نفسها ..ولكن مالبثت أن سمعت أنينا ضعيفا ..تلفتت باحثة عن مصدر الأنين..وإذا بامرأة ممدة تحت جذع شجرة يابسة..يبدو عليها الإعياء..اقتربت منها قليلا ..فاستطاعت أن تميز ماتهذي به هذه المرأة:
- ماء.. ماء.. ماء..
هرعت إلى نجدتها ..ولكن بحذر شديد ..اقتربت منها أكثر ..وعندما أرادت أن تلقي عليها التحية ..نسيت أول وهلة أمر تنكرها ..فقالت :
- الس...
ثم أدركت بسرعة أن عليها أن تخشن من صوتها كي لاينفضح أمرها.
- السلام عليكم ياأختاه..
- لكن حال المرأة كان لايسمح لها برد التحية ..
- ماء..أريد ماء...
جلست طيبة الى جانب المرأة، وتناولت من صرتها قربة ماء صغيرة.. فتحت غطاءها وناولته للمرأة العطشى :
- تفضلي اشربي
بيد مرتعشة ..تناولت المرأة قربة الماء وراحت تشرب بشراهة. وبعد أن ارتوت: طيبة: هنيئاً.. مريئاً.
أجابتها المرأة:
- جزاك الله خيراً يا ولدي.
ابتسمت طيبة مع نفسها عندما سمعت ماقالته المرأة ..فهذا يعني أن هيئتها تدل على أنها شاب وليس فتاة, وهذا يعني نجاحها في التنكر .وفي هذه اللحظات سمعت على بعد مسافة قريبة منهما صوت رجل يستغيث:
- ماء.. ماء.. سأموت عطشاً..
نهضت وأسرعت لإنقاذه كما فعلت مع المرأة..ومدت إليه يدها بقربة الماء ..
- تفضل يا عمي.. اشرب.. الماء..
تناول الرجل ليأخذ قربة الماء من طيبة ..ارتشف جرعة ثم توقف ليقول شيئاً: – أولادي...أولادي في البيت يموتون عطشاً..
ربتت طيبة على كتف الرجل وهي تقول :
- خذ الماء وأسرع اليهم يا عم..
أسرع الرجل مهرولا وهو يردد((بارك الله فيك.. ستنقذ أطفالي من الموت.. بارك الله فيك.. بارك الله فيك)).
رجعت طيبة لتجلس الى جانب المرأة تحت الشجرة.. وهي ما تزال مستغربة من الأمر.. - لا أكاد أفهم شيئاً!. ماذا يجري هنا؟.
تنهدت المرأة وتنفست الصعداء ..وراحت تحكي لطيبة بنبرة هادئة حزينة :
- إنها مصيبة ياولدي. مصيبة حلت بقريتنا.
ازدادت حيرة طيبة مما تراه وتسمعه ..فسألت:
- أية مصيبة؟!
أتكت المرأة رأسها على جذع الشجرة اليابس, وكأنها تستذكر مواجعها ..ثم بدأت الكلام:
- منذ أيام ونحن على هذه الحال.. لقد جفت أنهار القرية.. ونشفت آبارها..ومات الزرع فيها , ويبست أشجارها.. والحيوانات تموت كل يوم. والشيوخ.. والأطفال المساكين.
سألتها طيبة بصوت خشن:
- وما السبب؟
تابعت المرأة قصتها الحزينة:
- آه لو أن أحداً يعرف السبب، لما كنا في هذه الحال..
وبينما كانت المرأة تروي قصتها على مسامع طيبة ,وإذ بطفلة صغيرة تقترب منهما ,وهي تبكي بحرقة :
- ماء..ماء..أريد ماء..
نادتها طيبة بصوت عال مع ابتسامة:
- تعالي يا صغيرتي..
اقتربت الطفلة من طيبة بخطوات بطيئة.. ((ماء.. إنني عطشانة.. أريد قليلا من الماء.)).
ضمت طيبة الطفلة الى صدرها.. وراحت تفكر..
- ما أقسى الحياة هنا! ما ذنب هؤلاء الأطفال المساكين؟.
لكن بكاء الطفلة وتوسلاتها حال دون أن يدع مجالا لطيبة لتجد جوابا لسؤالها .
- أتوسل اليك ياعمي.. سأموت من العطش.. مثلما مات جدي..
أمسكت طيبة بكتفي الطفلة وهي تسألها بعطف وشفقة :
- هل مات جدك؟
- نعم.. مات من العطش..
قالتها الطفلة ..ثم عادت لتبكي, واضعة رأسها على كتف طيبة التي رق قلبها ..ودمعت عيناها لما رأته وسمعته.لكنها نهضت واقفة ..وراحت تفكر ..
لاحظت المرأة كيف أن الرجل الغريب هذا ( طيبة )) قد تأثر بما رآه..فنهضت من مكانها بعد أن استعادت قواها ..لتقف إلى جانب طيبة ..وتسألها :
- تبدو غريباً.. أليس كذلك؟
أجابتها طيبة بحزن :
- بلى. أنا من قرية السهل الأخضر.. وكنت في طريقي الى وادي الأسرار..
وما إن سمعت المرأة العبارة الأخيرة حتى انبرت قائلة :
- لتقابل الحكيم ؟
وهنا صعقت طيبة لما سمعته من المرأة ,فظنت أنها تعرف شيئا عن قصتها ..ففزعت أول الأمر لكنها تداركت الأمر:
- و..من أخبرك بذلك؟ هل تعرفينني؟!
أجابتها المرأة مبتسمة :
- لا.. ولكن من يريد الوصول الى وادي الأسرار فهذا يعني أنه يريدمقابلة حكيمه .
اطمأنت طيبة وقد دخل الى قلبها بصيص من الأمل.. فأردفت قائلة:
- الحمد لله.. اذن هو طبيب معروف .. ومشهور وسيصف علاج أبي باذن الله..
سألتها المرأة:
- والدك مريض اذن ؟
ردت طيبة بحزن:
- ولا أحد يصف له دواءه غيره.. هكذا أخبروني..
- إنه حكيم مشهور وذو علم وخبرة ..لاأنكر هذا ..ولكن الوصول إليه هو أصعب مافي الأمر ..فالطريق إلى وادي الأسرار لاتخلو من المتاعب والمخاطر.
هزت طيبة رأسها قائلة:
- وحياة أبي غالية عندي.. تستحق المخاطرة.
تنهدت المرأة ..وسحبت نفسا طويلا وحسرة دفينة ..وهي تقول :
- سالم ولدي كان هو أيضاً مصمماً على مقابلة حكيم وادي الأسرار لينقذ قريتنا من العطش. عزم على الرحيل.. ورحل فعلاً.. رحل عنا باحثاً عن وادي الأسرار.. لكنه لم يعد إلينا ..
ثم انفجرت بالبكاء....
المسكينة إذن قد فقدت ابنها الذي أراد إنقاذ القرية ..أعانها الله على المصيبتين ..مصيبة القرية ..ومصيبة ابنها ..وفي هذه اللحظات اقتربت الطفلة من طيبة لتلفت انتباهها إليها وهي تردد:
- ماء..ماء.. سأموت من العطش..
أرادت أن تجلس قربها لتواسيها, لكنها لاحظت أن شيخا هرما يجر نفسه بقدمين لاتقويان على حمله .. ..يدنو منهم بخطوات ثقيلة ..ثم يسقط على الأرض ..هرعت طيبة إليه , أمسكت بيده ,ثم وضعت أذنها على صدره.. عندها عرفت أنه قد مات.. فتصاب بالحزن:(( لاحول ولاقوة إلا بالله )).
هزت المرأة رأسها يائسة وهي تقول:
- هكذا هي الحال كل يوم..ولانملك سوى أن ندعو الله تعالى أن يلهمنا الصبر على مانحن عليه.
نهضت طيبة من مكانها وقد ازداد حزنها حزنا ..وقررت أن تحاول جاهدة أن تساهم في تقديم المساعدة لسكان هذه القرية المنكوبة. وقفت وهي تقول:
- خذي هذا العهد مني ياأختي.. والله عندما سأقابل حكيم وادي الأسرار.. فان سؤالي الأول سيكون عن سر عطش قريتكم قبل أن أعرف مرض أبي..
هزت المرأة رأسها قائلة :
- بارك الله فيك أيها الشاب الطيب.. وكثر الله من أمثالك..والله إن شجاعتك هذه وحماستك ..ذكرتني بولدي حسان ..أدعو الله أن يوفقك في مسعاك الطيب.
لملمت طيبة نفسها وحاجياتها.. مستعدة لمواصلة الرحلة..
- والآن علي أن أواصل رحلتي.. فالمسألة أصبحت أكثر أهمية.
ودعتها المرأة بابتسامة:
- في رعاية الله..
وانطلقت طيبة مواصلة طريقها ..بينما وقفت الطفلة مودعة:
- مع السلامة يا عمي
رجعت طيبة إلى الطفلة لتضمها إلى صدرها مصبرة إياها:
- سأعود اليك بالماء.. انتظريني يا صغيرتي.
أجابتها الطفلة:
- سأنتظرك.. لأنني عطشانة.
قبلتها وابتعدت راحلة باتجاه وادي الأسرار
***
تــــــــــــــــــابـــــــــــــــع